كنّا من المتفهّمين لأبعاد تظاهرة تشييع الأمينين العامّين السابقين لحزب إيران في لبنان، السّيدين حسن نصرالله وهاشم صفيّ الدين. لم تأخذنا مشاعرنا السياسية المعارضة لسياسات الحزب باتجاه سلبي. كنّا من الداعين لضرورة منع قيام أيّ فرصة تدفع مجدداً إلى انجرار اللبنانيين إلى مواقف صدامية بينهم، مع ضرورة الثبات على المواقف الوطنيّة المبدئيّة المعلنة ضدّ سياسات نصرالله وحزبه.
في الواقع، لم يكن من الممكن أن تمرّ هذه التظاهرة بسلام، لولا أنّ الظروف الإقليميّة والدوليّة قد تبدّلت تبدّلاً جذريّاً، وأنّ القوى الإقليميّة والدوليّة بدّلت من تعاطيها مع لبنان، فلم يعد يعنيها الاستثمار في أحداث مثل هذا الحدث. هذا الأمر يؤكّد أنّ لبنان خرج من نفق الحرب المظلم، ومن الصراع الإقليمي والدولي، وهو الآن على سكّة المعالجة. استعادت الدولة سيادتها على كامل الأراضي اللبنانيّة، واستعادت حقها الحصري في السلم والحرب. من هنا بدأت الحاجة الماسّة للعمل من أجل استراتيجيّة وطنيّة لبناء السلام في لبنان بعد النزاع.
انقسم اللبنانيون في مقاربة هذه التظاهرة التشييعية. ليس غريباً هذا الانقسام شبه العمودي بين اللبنانيين. فهذه شيم اللبنانيين، وجزء من تراثهم الديموقراطي التقليدي. لكن، فيما حملت تظاهرة التشييع بعداً مذهبياً عميقاً مغلّفاً بمفهوم أيديولوجي سواء بنوعيّة المشاركين أو المرحّبين بها، فإن مواقف الغائبين عنها كانت سياسيّة، حيث نظر هؤلاء ولو بأشكال متباينة، إلى شخصَي المكرّمين على أساس مواقفهما السياسيّة والأيديولوجيّة، وليس لثوبيهما الدينيين. وبناءً على ذلك، فإنّ من الواجب أن نقول إنّ هذا الانقسام لا طابع دينيّاً له. وهو في الواقع نموذج حيّ لكلّ الأحداث والمواقف التي شهدها لبنان، وبلورها أهله منذ عام 1969، حتّى تاريخه. الحرب في لبنان لم تكن طائفيّة أو مذهبيّة، بل سياسية استغلّ أصحاب السياسة فيها العامل الديني لتفعيل مصالحهم وأهدافهم. رفض تطييف الحرب في لبنان يفترض أن يكون جزءاً أساسياً من مفهوم إعداد استراتيجيّة إعادة “بناء السلام بعد الحرب في لبنان”.
نحن لا نستطيع أن نتجاهل إطلاقاً مواقف إسرائيل تجاه هذه التظاهرة التشييعية. لم يكن من الممكن أن تتمّ هذه التظاهرة من دون موافقة إسرائيلية ضمنيّة على إقامتها بالشكل الذي تمّت به. جاءت هذه التظاهرة بتاريخ أعقب التاريخ المتفق عليه لانسحاب إسرائيل من لبنان وفقاً لاتفاق وقف النار بينها وبين حزب المكرّمين. احتفظت إسرائيل بخمس نقاط استراتيجيّة داخل لبنان، ولم يعتبر الحزب هذا الخرق سبباً لإسقاط مفاعيل اتفاق وقف النار. أسقط الحزب مقولة السلاح لتحرير هذه النقاط، وأحالها إلى الدولة. وهذا يعني عملياً، أنّ الحزب خرج من ثوبه المقاوم، ليتحوّل إلى حركة سياسية محلية مهما تكن شعاراته المعلنة. هذا الأمر يفترض أن تعود الدولة إلى التمسّك باتفاق الهدنة على أساس أنّه الاتفاق الوحيد بين الدولة اللبنانية وإسرائيل. اتفاق الهدنة يجب أن يكون جزءاً أساسياً آخر في رسم الاستراتيجية الوطنية لإعادة بناء السلام بعد الحرب في لبنان.
من الواجب الآن أن تنظر الدولة بانتباه إلى مرحلة ما بعد التظاهرة. فالتظاهرة التي حصلت رغم أوجاع الكثيرين من الناس الذين دفعوا أثماناً باهظة لسياسات نصرالله وحزبه قبل انهياره العسكري، شكّلت في إيجابيّاتها تهدئة للنفوس في بيئة “حزب الله”، وخفضاً للاحتقان لديهم. من واجب الدولة الآن أن تتفاعل مع الماضي من منطلق الحرص على الغد وبناء السلام الأهلي. هذا لا يتم من دون تحقيق العدالة. من الواجب أن لا تقبل الدولة بالتورية على الجرائم التي حصلت. لا عفو عن الماضي. ولا قبول بشعار “عفا الله عمّا مضى”. تحقيق العدالة للبنان وشعبه واجب أساسي لتحقيق السلم الأهلي. لن تشتري مليارات الدولارات من التبرّعات التي قد تتدفّق على لبنان، هذا السلام. يجب الاعتراف أولاً بأنّنا كنّا ضحيّة، وأن المال الذي يحصل عليه وطننا، هو تعويض له ولأهله.
لقد نادينا منذ سنوات، بأنّ قانون العفو الذي صدر عام 1992 في أعقاب الحرب الداخليّة (الأهليّة)، لا يتوافق مع التزامات لبنان وفقاً للقانون الدولي، وحقوق الإنسان. لا يجوز حرمان ضحايا تلك الحرب من العدالة. العودة إلى هذا الأمر ضرورة، وضرورة كبيرة. فالمصالحة الوطنيّة لم تحصل. من الواجب إعادة النّظر في هذا القانون. وقد اقترحنا في حينه اللجوء إلى مثال نلسون مانديلا من خلال إقامة مؤتمر للمصارحة والمصالحة الوطنيّة كما فعل مانديلا بعد سقوط نظام الفصل العنصري في أفريقيا، بشرط تقاعد السياسيين الذين تلوّثت أيديهم بدماء الأبرياء من اللبنانيين من كل الطوائف والمناطق، والإفساح أمام الجيل الجديد لإعادة بناء الوطن وفقاً لاتفاق الطائف.
لقد شهدنا منذ عام 1969، جرائم موصوفة بجرائم ضد الإنسانيّة، وجرائم حرب ولا سيّما تلك التفجيرات العشوائيّة، والاغتيالات الشنيعة التي حصلت، وتفجير المرفأ. مثل هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم، ولا يجوز لوطن وشعب حضاري مثل الشعب اللبناني أن يقبل بالتورية عليها. يجب العمل سريعاً للانضمام إلى المحكمة الجنائيّة الدوليّة التي شارك لبنان بفعالية في إعداد قانونها.
كما أنّ ما حصل من إفقار لشعب لبنان عبر السنوات، ونهب ثروته ومدّخرات أهله بسبب فساد أهل السلطة، يبقى مسألة فوق أيّ عفو. يجب إنشاء محكمة خاصة لمحاكمة الفساد وسؤال كلّ من شارك في السلطة، “من أين لك هذا”؟
تعرّضنا لخيانة عربيّة، وإقليميّة، ودوليّة غير خافية. دفعنا فاتورة صراع الحرب الباردة والظلم الذي لحق بأهل فلسطين. نطالب برفع الصوت، ووقف المجاملات، ووقف شحذ المساعدات، وإسقاط الخجل بالمطالبة بالتعويضات من كلّ حدب وصوب. ونكرّر وجوب مداعاة إيران، ومطالبتها بتعويض أهلنا الشيعة كلّ خسائرهم ومصائبهم. البكاء على نصرالله وصفي الدين، لن يعيد إعمار الخراب. لن نقبل أن ندفع فاتورة عدوانها على وطننا وشعبنا من حساب أبنائنا والأجيال الطالعة.
السفير د. هشام حمدان